إهانة المقدسات وأخلاقيات التعايش: نظرة متعددة التخصصات إلى حدود حرية التعبير
إن إهانة المقدسات الدينية للآخرين تعد قضية صعبة في المجتمعات المتعددة الثقافات؛ هذه المقالة تدرس الحدود الأخلاقية لمثل هذا السلوك من منظور الفلسفة الأخلاقية، والتعاليم الدينية (مع التركيز على القرآن الكريم)، واعتبارات حقوق الإنسان. ومن خلال تحليل الآية 108 من سورة الأنعام والمبادئ الأخلاقية مثل "القاعدة الذهبية"، يتبين أن احترام مقدسات الآخرين ليس مجرد توصية دينية، بل هو أيضا ضرورة أخلاقية واجتماعية من أجل الحفاظ على التعايش السلمي.
مقدمة
في عالم يتميز بالتنوع الديني والثقافي، فإن تعاملنا مع معتقدات الآخرين سيحدد نوعية تعايشنا الاجتماعي. ومن بين القضايا الأكثر تحدياً في هذا السياق هي الحدود الأخلاقية لحرية التعبير، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالمقدسات الدينية للآخرين. هل يجوز إهانة المعتقدات الدينية للآخرين في إطار حرية التعبير؟ أم يجب أن يقتصر الأمر على إطار الاعتبارات الأخلاقية والاجتماعية؟ تهدف هذه المقالة إلى الإجابة على هذا السؤال من خلال دراسة القضية من ثلاثة جوانب: الأخلاقية، والدينية، والقانونية.
1. الأخلاق واحترام معتقدات الآخرين
أحد المبادئ المقبولة في الفلسفة الأخلاقية، هي القاعدة الذهبية:
"لا تعامل الآخرين كما لا تحب أن يعاملوك."
وبناء على هذا المبدأ، إذا كان الإنسان لا يريد أن تُهان معتقداته، فإنه لا يجوز له أخلاقياً أن يتصرف بهذه الطريقة مع الآخرين. كما اعتقد مفكرون مثل إيمانويل كانط، استناداً إلى مبدأ "احترام الكرامة الإنسانية"، أن الآخرين يجب أن ينظر إليهم باعتبارهم غايات (وليس وسائل) (كانط، أسس ما بعد الطبیعة للأخلاق).
إن إهانة مقدسات الآخرين هو استهتار بالقيم التي تشكل هوية الطرف الآخر وأمنه النفسي ومعنى حياته ومن هذا المنظور فإن مثل هذا السلوك يعد انتهاكاً لكرامة الإنسان.
2. التعاليم الدينية: القرآن وتحريم الإساءة
والآية المحورية في هذا الصدد هي الآية 108 من سورة الأنعام:
وقد اعتبر المفسرون الكبار مثل الإمام الفخر الرازي والشيخ الطبرسي هذه الآية دليلاً على أن الإسلام يدعو إلى الجدل باحترام، حتى في مواجهة الشرك. إن هذا الأمر القرآني هو في الواقع مبدأ وقائي؛ لأن إهانة الأشياء المقدسة تؤدي في كثير من الأحيان إلى ردة فعل عنيفة وعداء ديني.
كما أن في حياة النبي الکریم (صلى الله عليه وسلم)، حتى في أشد المواجهات مع الخصوم الدينيين، تمت مراعاة مبدأ حفظ كرامة الإنسان. على سبيل المثال، أثناء فتح مكة، خاطب النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى أولئك الذين أهانوه لسنوات وعذبوه ونفوه وقاتلوه وأصحابه.. "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، فغفر لهم.
3. الإهانة في ضوء حقوق الإنسان
إن حرية التعبير هي إحدى ركائز حقوق الإنسان، ولكن لها حدود أيضًا فوفقًا للمادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، لا ينبغي لحرية التعبير أن تؤدي إلى "التحريض على الكراهية أو العنف". وتنص المادة 20 أيضًا بشكل صريح على أنه يجب حظر أي دعاية للكراهية الدينية.
ويعتقد العديد من علماء حقوق الإنسان، مثل جون راولز، أن حرية التعبير ينبغي أن تُفهم في إطار "العدالة كالإنصاف" والاحترام المتبادل (راولز، الليبرالية السياسية). إن انتقاد المعتقدات والأراء وتحدیها أمر مسموح به، ولكن السخرية والإهانات العلنية، وخاصة تجاه الأقليات الدينية، يمكن أن تسبب ضرراً اجتماعياً، وتحرض على العنف، وتعزز التطرف.
4. العواقب الاجتماعية للتجديف
في المجتمعات المتعددة الثقافات، حيث تعيش أعراق وديانات مختلفة جنباً إلى جنب، يؤدي انتهاك المقدسات إلى التوترات الاجتماعية والانقسامات الثقافية والعنف الديني. لقد أظهرت تجربة الدول الغربية في التعامل مع الرسوم الكاريكاتورية المهينة أو الإهانات للأنبياء أن مثل هذه الأفعال لا تفيد حرية التعبير فحسب، بل إنها تمهد الطريق لنمو التطرف وإضعاف السلم الاجتماعي.
خاتمة
إن إهانة مقدسات الآخرين، حتى وإن اعتبر ذلك جائزاً من الناحية القانونية في بعض الأنظمة، فهو أمر غير مقبول أخلاقياً ودينياً وخطير اجتماعياً. وتؤكد التعاليم الدينية الإسلامية والمبادئ الأخلاقية الكلاسيكية واعتبارات حقوق الإنسان أن احترام معتقدات الآخرين شرط ضروري للحياة الأخلاقية والاجتماعية في المجتمعات التعددية. إن النقد البناء ممسوح به وضروري، ولكن السخرية والإهانات تتعدى على الحدود الأخلاقية وتقلل من قيمة الحوار الديني.
المراجع:
1. القرآن الكريم، سورة الأنعام، الآية 108.
2. الفخر الرازي، مفاتيح الغيب.
3. الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن.
4. كانط، إيمانويل، أسس ما بعد الطبیعة للأخلاق، ترجمة حميد عنايت، طهران، منشورات خوارزمي، 2015
5. راولز، جون، الليبرالية السياسية، ترجمة: موسى أكرمي، طهران، الطبعة الثالثة.
6. العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، المادتان 19 و20.
الآراء